أروع القصائد العراقية

قصيدة حب للكلمات

تكتب الشاعرة العراقية نازك الملائكة:

لماذا نخشَى الكلمات؟

فأحيانًا تكون أيادي مثل الورود

تتدفق بالعطر، تمر عذبةً على الوجنات

وأحيانًا كأنها كؤوس من رحيقٍ مُنعش

تُشرب في صيفٍ ملتهب، في لحظات العطش؟

لماذا نخشى الكلمات؟

فهناك من الكلمات ما هي أجراسٌ خفية

تُعلن من أعماقنا المنفعلة

فتراتٍ ساحرةَ الفجر غزيرة

تقطر إحساسًا وحبًا وحياةً

فلماذا نحن نخشَى الكلمات؟

نحن لجأنا إلى الصمت

في صمتنا، حاولنا ألا تكشف الشفاه الحقيقة

وظننا أن في الألفاظ غولًا مخفيًا

يتوارى بين الحروف بعيدًا عن سمع الزمن

لقد قيدنا الحروف الجائعة

ولم نتركها تمهد لنا الليل

كوسادة تنساب بموسيقى وعطر وأماني

وكؤوسًا دافئة

لماذا نخشَى الكلمات؟

إنها باب مفضي لفضاءات الحب المخفية

فلنرفع حجاب الصمت عنها

إنها نافذةٌ تُلقي الضوء على ما خفينا

في أعماقنا من آمال وشوق

فمتى يدرك الصمت الممل

أننا قد عدنا لنحب الكلمات؟

لماذا نخشَى الكلمات

التي تأتي إلينا

من أعماقنا الدافئة؟

إنها تفاجئنا، في غفلة من شفتينا

وتلهمنا، فتنهال علينا ألف فكرة

من حياةٍ غنية، زاهرة الآفاق

قد راحت فينا دون أن تدري الحياة

وغدًا ستقدم لنا

الصديقات الحريصات علينا، الكلمات

فلماذا لا نحب الكلمات؟

لماذا نخشَى الكلمات؟

فهناك كلمات تفيض بالعذوبة

تألقت أحرفها بدفء الأماني من شفتيك

وهناك أخرى التي تخطف القلب

أعبر بساتين الفرح سكرى أعيننا

كلمات شاعرية، هشة

جاءت لتلامس خدودنا، أحرف

قد نام في أصدائها لونٌ غنيّ وهديل

وأشواق خفية.

لماذا نخشَى الكلمات؟

إذا كانت أشواكها قد جرحتنا يومًا

فقد احتضنت أعناقنا

وأغرقت شوقنا بعطرها الجميل

فإذا كانت أحرفها قد آذتنا

وتجاهلتنا دون أن تتعطف علينا

فكم من وعود تركت لنا

وغدًا لن تملأنا إلا بعطر وورد وحياة

آهِ، فاملأ كأسينا من الكلمات!

في الغد سنبني لنا عشًّا من كلمات

سامقًا تعتليه زهور اللبلاب

سنستحضر الشعر في زخرفه

وسنروي زهره بالكلمات

وسنختار شرفة للعطر والورد الخجول

ولها أعمدة من الكلمات

وممراً بارداً يغمره ظلّ شجاع

حراسته الكلمات.

قصيدة أنشودة المطر

يقول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب:

عيناك كنخيلٍ في ساعات الفجر،

أو كُنافذ تتباعد عنها القمر.

عيناك عندما يبتسمان تورق الكروم

وترقص الأضواء كالأقمار في النهر

يضطرب المجذاف برفق في ساعة السحر

كأنما تنبض في كليهما، النجوم،

وغمرهما ضباب من أحزان رقيقة

كالبحر الذي سرح اليدين فوقه المساء،

وفيه دفء الشتاء ورعشة الخريف،

والموت، والميلاد، والظلام، والضياء؛

فيه تستفيق روحي، رعشة البكاء

ونشوة وحشية تعانق السماء

كفرحة الطفل إذا خاف من القمر!

كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم

وقطرةً تذوب في المطر…

وكركر الأطفال في عرائش الكروم،

ودغدغت صمت العصافير على الشجر،

أنشودة المطر…

مطر…

مطر…

مطر…

تثاءب المساء، والغيوم ما تزال

تنزف ما تستطيع من دموعها الثقال.

كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام:

بأنَّ أمه التي أفاق منذ عام

لم يجدها، ثم حين لجّ في السؤال

قالوا له: “بعد غدٍ تعود.”

لا بدَّ أن تعود

وإذا همس الرفاق أنها هناك

في جانب التل تنام نومة اللحود

تسفّ من ترابها وتحتسي المطر;

كأن صياداً حزيناً يجمع الشباك

ويلعن المياه والقدر

وينثر الغناء حيث يأفل القمر.

مطر…

مطر…

هل تعلمين أيّ حزن يعكس المطر؟

وكيف تنهض المزاريب عند المشهد؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟

بلا انتهاء كالدَم المراق، كالجياع،

كالحب، كالأطفال، كالموتى هو المطر!

وعيناك بي تحلقان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمر البروق

تغمر سواحل العراق بالنجوم والمحار،

كأنها تهتم بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثار.

أصيح بالخليج: “يا خليج،

يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرَّدى!”

فيرجعُ الصدى

كأنّه النشيج:

“يا خليج،

يا واهب المحار والردى.”

أكاد أسمع العراق يذر الرعود

ويخزن البروق في السهول والجبال،

حتى إذا ما فُصل عنها ختمها الرجال

لم يترك الرياح من ثمود

في الوادي من أثر.

أكاد أسمع النخيل يشرب المطر

وأسمع القرى تئن، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع،

عواصف الخليج، والرعود، منشدين:

“مطر…

مطر…

مطر…

وفي العراق جوع

وينثر الغلال فيه موسم الحصاد

لتشبع الغربان والجراد

وتطحن الشوان والحجر

رحىً تدور في الحقول.. حولها بشر

مطر…

مطر…

مطر…

وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموع

ثم اعتللنا – خوفاً أن نلامَ – بالمطر…

مطر…

مطر…

ومنذ كنا صغاراً، كانت السماء

تغيم في الشتاء

ويهطل المطر،

وكل عام – حين يعشب الثرى – نجوع

ما مر عام والعراق ليس فيه جوع.

مطر…

مطر…

مطر…

في كل قطرةٍ من المطر

حمراء أو صفراء من أجنّة الزهر

وكل دمعة من الجياع والعراة

وكل قطرة تراق من دم العبيد

فهي ابتسامة في انتظار مبسم جديد

أو حلمٌ تُورّد على فم الوليد

في عالم الغد الفتيّ، مانح الحياة!

مطر…

مطر…

مطر…

سيُعشبُ العراق بالمطر…”

أصيح بالخليج: “يا خليج…

يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!”

فيرجع الصدى

كأنّه النشيج: “يا خليج

يا واهب المحار والردى.”

وينثر الخليج من هباته الكثيرة،

على الرمال، رغوه الأجاج، والمحار

وما تبقى من عظام بائسٍ غريق

من المهاجرين ظل يشرب الردى

من لجّة الخليج والقرار،

وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق

من زهرة يربّها الفرات بالنّدَى.

وأسمع الصدى

يرنّ في الخليج “مطر…

مطر…

مطر…

في كلّ قطرة من المطر

حمراء أو صفراء من أجنّة الزهر.

وكل دموعة من الجياع والعراة

وكل قطرة تُراق من دم العبيد

فهي ابتسامة في انتظار مبسم جديد

أو حلم تُورّد على فم الوليد

في عالم الغد الفتي، وهب الحياة.

ويهطل المطر…

عمرنا نحن نذرناه صلاة

فلمن سنصلّيها… لغير الكلمات؟

قصيدة سراب

يقول بدر شاكر السياب أيضًا:

بقايا من القافلة

تنير لها نجمة آفلة

طريق الفناء

وتؤنسها بالغناء

شفاه ظماء

وتهاويل مرسومة في السراب

تمزق عنها النقاب

على نظرة ذاهلة

وشوق يذوب الحدود

ظلال على صفحة باردة

تحركها قبضة ماردة

وتدفعها غنوة باكية

إلى الهاوية.

ظلال على سلم من لهيب

رمى في الفراغ الرهيب

مراتب البالية

وأرخى على الهاوية

قناع الوجود

سنمضي.. ويبقى السراب

وظل الشفاه الظماء

يهوم خلف النقاب

وتمشي الظلال البطء

على وقع أقدامك العارية

إلى ظلمة الهاوية

وننسى على قمة السلم

هوانا.. فلا تحلمي

بأنا نعود!

قصيدة أبو العلاء المعري

ينظم الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري:

قف بالمعرة وامسح خدها التربا

واستوح من طوق الدّنيا بما وهبَ

استوح من طبيب الدّنيا بحكمته

ومن جرحها الموجع قدّ سكبًا

وسائل الحفرة المرموقة جانبها

هل تبتغي مطعماً أو ترتجي طلبًا؟

يا برج مفخرة الأجداث، لا تجعلي

أن لم تكوني لأبراج السّماء قطبا

فكلّ نجمٍ تمنى في قراراته

أنه بشعاعٍ منك قد جُذبا

Scroll to Top