نظرية ابن جني حول أصل اللغة

أصول اللغة ونشأتها وفقًا لابن جني

انقسم علماء اللغة العربية في ما يتعلق بنشأة اللغة وأصلها إلى قسمين رئيسيين. الأول يرى أن اللغة هي توقيف من الله، أي أنها وحي وإلهام، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: “وعلمَ آدمَ الأسماءَ كُلَّها”. بينما يشير القسم الثاني إلى أن اللغة نتاج تواضع واصطلاح، وقد فسر ابن جني قول الله عز وجل: “وعلم آدم الأسماء” على أنه منح الله آدم القدرة على اصطلاح أسماء الأشياء.

وهذا يعني أن الإنسان قد مُنح الاستعدادات الفطرية والقواعد الذهنية اللازمة لتسمية الأشياء الجديدة. ويستشهد ابن جني بقوله: “ومن ذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيصيغوا لكل واحدة منها سمة ولفظاً، إذا ذُكر يُعرف به ما سمّاه، ليمتاز عن غيره، وليكون ذكْره أغنى وأكثر سهولة من إحضاره إلى مرآة العين”.

كما أشار ابن جني إلى أهمية الاستدلال بالآيات المذكورة، حيث إن الإنسان قد تعلّم الأسماء المنسوبة لكل زمان ومكان، مما مكنه من تعديل اللغة وفقاً للحاجات والأغراض المُستخدمة من أجلها. وبالنسبة للأفعال والحروف، فقد تساءل العديد من العلماء عن سبب تعليم الله آدم الأسماء فقط. وقد ردَّ ابن جني على هذا التساؤل في باب اطلق عليه اسم إمساس الألفاظ أشباه المعاني، موضحًا أن الإنسان منذ بداية الخليقة قد أطلق أصواتًا تعبر عن الأشياء وحياتها، مما أدى إلى القدرة على نطق أصوات مركّبة ذات مقاطع صوتية. وكانت لغته الأولى تتسم بشدة محدوديتها وقلة تنوعها، ولكن الإنسان تطور نحو الأفضل بفضل تعامله الاجتماعي وتأثره بمن حوله.

تعريف اللغة عند ابن جني

يعرّف أبو الفتح في كتابه “الخصائص” اللغة بقوله: “أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”. يمكن تقسيم هذا التعريف إلى عدة أقسام: القسم الأول يُشير إلى أن اللغة عبارة عن منظومة صوتية، بينما يشير القسم الثاني إلى استخدامها في التعبير والتواصل، والقسم الثالث يتعلق بوظيفتها في التعبير عن الحاجات والأغراض. من خلال تحليل هذه الأبعاد، نتبين أن هذا التعريف يشتمل على نقاط أساسية تحتاج إلى مزيد من البحث والتوضيح.

الطبيعة الصوتية للرموز اللغوية

في القسم الأول، يؤكد ابن جني على الطبيعة الصوتية للرموز اللغوية، حيث تشير الوظيفة الاجتماعية للغة إلى التعبير ونقل الأفكار ضمن إطار المجتمع اللغوي. لكل قوم لغتهم الخاصة، ويُبرز ابن جني تركيزه على أن اللغة تتعلق بالأصوات دون الأشكال الكتابية، مما يدل على أن علماء اللغة العربية درسوا اللغة باعتبارها لغة منطوقة.

وظيفة اللغة

أما في القسم الثاني من تعريف ابن جني، فإنه يسلط الضوء على وظيفة اللغة، حيث يشير إلى أنها تعبر عن أغراض كل قوم، مما يُوضح الوظيفة التعبيرية للغة. من المهم التمييز بين ما يتعلق بالتوصيل والتعبير؛ حيث إن التوصيل يشير إلى الاتصال بين الأفراد، بينما التعبير يمكن أن يحدث حتى دون تفاعل مباشر بين المتحدث والمستمع.

اللغة أصوات

في القسم الثالث، يُشير ابن جني إلى أن اللغة تتكون من أصوات تعبّر بها المجموعات عن أغراضهم. من الجدير بالذكر أنه استخدم كلمة “قوم” بدلًا من “إنسان” أو “فرد”، مما يدل على أن القوم آنذاك هم المجتمع الذي يتواجد ضمن بيئة واحدة ويستخدمون نظامًا صوتيًا موحدًا. وبالتالي، يمكننا استنتاج أن هؤلاء الأفراد قد استوعبوا إحدى القوانين الأساسية التي تحكم اللغة، حيث ارتبطت هذه اللغة بعلاقات اجتماعية تعكس تأثير الفكر وتبادله.

رأي ابن جني في متعلم اللغة

يقول ابن جني في كتابه “الخصائص”: “وأعلم أن العرب تختلف أحوالُها في تلقي الواحدِ منها للغَةِ غيرِه، فمنهم من يخف ويسرع قبول ما يسمعه، ومنهم من يعتصم فيقينُ على لغته البتة، ومنهم إذا طال تكرُرُ لغةِ غيره عليه لصقت به ووُجِدت في كلامه”.

يبين ابن جني أن متعلم اللغة ينقسم إلى ثلاثة أنواع: الأول هو الذي يستمع إلى لغة غيره ويقبلها لسهولتها، والثاني هو الذي يظل متمسكًا بلغته الأصلية ويرفض تعلم لغات أخرى، بينما الثالث هو الذي يتعرض لتكرار لغة جديدة، فيقبلها ويبدأ في دمجها ضمن لغته.

Scroll to Top